
فوز أردوغان ، فوز الضرورة لتركيا

د. جمال خالد الفاضي
أمد/ شكلت الانتخابات التركية الأخيرة، ظاهرة سياسية، وحدثاً ذا أهمية لم يقتصر على اهتمامات الأتراك، وإنما اهتمامات صناع القرار في السياسة الدولية والإقليمية، وهي ظاهرة جديرة بالاهتمام وبالتحليل والدراسة للوقوف على أبعاد ودلالات هذا الاهتمام، وهذا الانتظار لنتائج انتخابات محلية في دولة، من البديهي أن انعكاساتها وتداعياتها ستنحسر على الشأن الداخلي.
فوز "الطيب أردوغان"، ليس عبثياً أو وليد الصدفة أو نتاج تطلعات عاطفية او ابعاد أيديولوجية، فهو شخصية بارزة ومهمة في السياسة التركية والدولية منذ عقود بسبب ما يتمتع به من نهج استباقي في السياسة الخارجية والموقع الجغرافي السياسي لتركيا، أي منذ عام 2002، وهو العام الذي هيمن فيه حزب العدالة والتنمية على السلطة والحكم في تركيا.
في ولاياته المتعددة، شهدت تركيا تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة على مستوى تركيا الدولة والمجتمع، وهي بصمة ليس من السهولة أن تُمحى من ذاكرة أمة، لم تذق طعماً للأستقرار والطمائنينة قبل ذلك. وفي عهده، مارست تركيا سياسة خارجية، أشار إليها كثير من الباحثين باسم "العثمانية الجديدة" أو بالنهج الذي يسعى إلى إحياء النفوذ التاريخي لتركيا وتعزيز دورها الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري، وتأكيد نفسها كقوة إقليمية.
فوز "اردوغان"، في هذه الانتخابات التي شكلت مثار اهتمام عالمي، حتى ولو كان ذلك في جولة إعادة ثانية، هو نتاج مهارات قيادية، وشعبية وجاذبية وفعالية لم تشهدها تركيا منذ عهد " أتاتورك" الذي يسمى بأبو الدولة التركية الحديثة، فــــ"أردوغان" لم يكن زعيماً عارضاً في تاريخ تركيا ، وإنما زعيماً ملهماً سيسجله التاريخ ربما بأهم شخصية سياسية تركية على مدار قرن من الزمان. فصدى خطاباته ورمزيتها، ونداءاته العاطفية ، ومواقفه الجرئية وقراءاته السياسية، تركت أثراً لدى المواطنين الأتراك وكثير من الشعوب الأخرى.
وفي فتراته المتنوعة، شهدت تركيا أزدهاراً ونمواً اقتصادياً غاب طويلاً عن تركيا، وأصبحت بيئة حاضنة للاستثمار وجاذبة للمستثمرين الأجانب وتعزيزاً لريادة الاعمال وتحفيزاً للتنمية المستدامة، فتركيا اليوم ليست تركيا الأمس قبل عقدين من الزمن، وهو ما جعل كثير من الناخبين تواقين لاستمرار "اردوغان" في الحكم.
واجهت تركيا كثير من التحديات على صعيد الامن والاستقرار، ففي السابق وقبل مجئ العدالة والتنمية، كانت تمثل تركيا مرتعاً للجريمة والعصابات العابرة، وكانت تتميز بالانقلابات العسكرية والبيئة السياسية المضطربة، والوضع الامني المتردي، وغياب للديمقراطية الحقيقية وهيمنة للعسكر واندثاراً للحياة الحزبية الحقيقية.
على مستوى التحديات الاقليمية، فقد تركت أثرها وتداعياتها على تركيا الدولة والمجتمع وتركيا الجغرافية، في ظل أزمات ونزاعات إقليمية، واجتياحات للأجئين وتهديدات إرهابية وتطورات سياسية بالغة الدقة، استطاع "أردوغان" قيادة السفينة التركية بحنكة واقتدار ، فقد كان برغماتياً عندما تطلب ذلك أن يكون، وأن يكون واقعياً عندما استدعته الضرورة لذلك، كان قائداً فذاً ومرناً حتى وإن اختلفنا معه أو مع طموحاته وسعيه أن يكون سلطاناً جديداً يستحضر به الماضي زمن الدولة العثمانية.
"أردوغان" ذو الخلفية الإسلامية، مارس توازن القيادة والدور بكل حكمة واقتدار وبفكر قومي مرن، وإدار علاقات تركيات الخارجية بسياسة ضبط النفس الطويل، واجاد علاقات التناقض في ظل سياسات دولية شديدة السيولة، وحافظ على مصالح تركيا ، لم تحكمه ايديولوجيته، أو نزواته، في حكم يطول من رئيس وزراء ورئيس دولة هو الأطول في تاريخ الدولة التركية الحديثة.
فوز "أردوغان" وبهذه الظروف التي تكاد أن تكون استثنائية ليست على مستوى تركيا الدولة، وإنما على مستوى السياسة الاقليمية والدولية والتي تشهد تحولات وتغيرات شديدة التعقيد والحساسية، أقلها الحرب الروسية الأوكرانية وتدخل الناتو، هو فوز الضرورة التي تحتاجه تركيا وتحتاجه السياسة التركية في ظل أزمات كثيرة يمكن القول عنها أنها في حيز المجال الحيوي للدولة التركية.
يمكن القول أن "اردوغان" هو القائد الذي جمع كل التناقضات في علم السياسة وجعل منها جسراً لخروج تركيا من تداعيات كان يمكن أن تشكل تحديات مصيرية لها في نمط العلاقات الدولية.
قد لا يتفق الكثير مع "اردوغان" وايديولوجيته، وخلفيته، وبعض سقطاته، وأنا واحداً منهم، والتي شكلت في لحظات تاريخية معينة عبء على دور تركيا الإقليمي والدولي، ولكن سرعان ما استدرك ذلك وأعاد مسار الدولة لطريقها الصحيح. اليوم وفي ظل كثير من الأزمات والتحديات على صعيد تركيا الداخل، وتركيا الخارج، فوز اردوغان يمكن أن نسميه فوز الضرورة التي تحتاجه الدولة التركية اليوم.